مقال بعنوان:
وطن فوق الخلافات
التعددية
السياسية هي صفة أصيلة بالمجتمع الفلسطيني ولها تاريخ حافل بالصراعات الدموية حيث
سجّل القرن التاسع عشر أعنف خصومات سياسية بعضها يدعو للانضمام لمصر وبعضها الآخر
يدعو لمحاربة مصر ونصرة السلطان العثماني، وفي نفس الحقبة تقريبا خرج الظاهر عمر
الزيداني بفكرة الاستقلال الوطني إلا أن معظم حروبه كانت فلسطينية ضد حلفاء
الآسيتانة والقاهرة. إن لغة الحوار والتفاوض بين الخصوم السياسيين تأخرت
كثيرا لحين تبلور شخصية المفتي أمين الحسيني، فهو أول من خاض غمار اللعبة السياسية
البراغماتية لتواصل مع خصومه السياسيين وخاصة بالكتلة النشاشيبية في رحلته لاثبات
زعامته للشعب الفلسطيني وقدرته على مد جسور الوصال مع خصومه السياسيين للحفاظ على
زعامته المطلقة ذات البعد النرجسي الواحد أو كما يقول ماركوز في شرح الانسان ذو
البعد الواحد: التواصل يعني ضرورة وجود، فاللاتواصل هو الاستثناء الذي تفرضه وقائع
حاصلة، بحيث يصبح هدف الحوار هو الخروج من أنساق التفكير الجاهزة والأنماط
المستعادة، وتأثيرات التجميع والنقل إلي فكر المقاربة والاختلاف الثقافي والحزبي.
إن الحياة السياسية كانت تسعى لحل سلمي سياسي بينما الجماهير الشعبية تبحث
عن عمل عسكري مسلح وذلك لفشل الدبلوماسية مع الانجليز ووضوح سعيهم لخلق وطن
للصهاينة فوق أرض فلسطين، الا أن سياسيين الفلسطينيين تمسكوا بالحل السلمي بدون
ابتكار آليات جديدة له أو خلق ظروف تساعد على تحقيقه فكان يتكررمرارا وتكرارا
بشكل أفقده المساندة الجماهيرية أو كما قال فيكتور هوغو: إنه لثناء
باطل أن يقال عن رجل إن اعتقاده السياسي لم يتغير منذ أربعين عاما، فهذا يعني أن
حياته خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث. إنه كمثل
الثناء على الماء الراكد لوجوده وعلى الشجرة لموتها. كما أن الجانب الآخر من
فلسطين الممثل بالثوار والتنظيمات المسلحة لم تكن موحدة، بل أن التاريخ سجل أحداث
اقتتال داخلي في عدة مناطق في أزمان مختلفة، وحتى لا يكون نقدنا سوداوية لمرحلة
نضالية سابقة، أضع بين يديكم قراءة نقدية لسيرة الشهيد المجاهد الشيخ أبوعلى حسن
سلامة.
الشيخ أبوعلي
حسن سلامة ابن قرية قولة قضاء الرملة، فدائي مغوار وقائد عسكري متمرس، لمع نجمه في
ثورة 1936-1939 إثر عملية نسف سكة الحديد بين اللد وحيفا بالاشتراك مع رفيقه محمد
سمحان فدمر قطار الجيش البريطاني وسقط جنوده بين قتيل وجريح، كما أصيب حسن سلامة
بجراح بليغة واستشهد رفيقه، لكنه تمكن من فرار والاختباء في أحدى المغارات، ثم
أطلق ليحته لتمويه على الجيش البريطاني الذي كان يبحث عنه، واستطاع مغادرة فلسطين
للعراق عبر الأردن حيث التحق بالجيش العراقي هناك وتدرب على التكتيك القتالي في
المدن (هو علم عسكري لقمع المشاغبين وسحق التمرد الانقلابي)، وكان له اسهام هام في
الثورة الانقلابية التي قادها رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الانجليز، ولم
يستطع الانجليز من خمد الثورة الا بمساعدة الجيش الأردني بقيادة غلوب باشا. فانسحب
حسن سلامة إلي إيران ومنها سافر إلي ألمانيا حيث تدرب على فك وتركيب الألغام
والتخطيط الميداني للمعارك الصغرى ( حرب العصابات على طريقة الجيوش النظامية). عاد
لفلسطين عام 1945 مع رفيقه ذوالكفل عبداللطيف وثلاثة خبراء ألمان بقصد إشعال
الثورة ضد مستوطنون الصهاينة والجيش البريطاني، لكن الجيش البريطاني اكتشف أمرهم
وأسر معظمهم إلا أن حسن سلامة استطاع الفرار – رغم تعرضه لإصابة خطيرة- وتمكن من
الوصول إلي الرملة ومنها صعد إلي حيفا ثم دمشق حيث التقى الشيخ أمين الحسيني. ثم
بدأ بالاعداد العسكري للشباب الفلسطيني لمساندة الجيوش العربية التي قررت وقف قرار
التقسيم وطرد الصهاينة من فلسطين.
وفي هذه الفترة
كانت علاقة حسن سلامة تتقوى مع قيادات الجيش السوري غير أنها لم تتمكن من تحسين
علاقته مع غلوب باشا، الذي اعتبره فوضوي متمرد، وحاول قدر الامكان عدم إعطاؤه أي
دور قيادي في عمليات الجيوش العربية، إلا أن الهيئة العربية العليا ( وهي أول
ابتكار للوحدة الوطنية بين الأحزاب الفلسطينية واعتبرت الممثل الرسمي لشعب فلسطين
مع الدول العربية) أوكلت له مهمة قيادة المنطقة الغربية الوسطى والتي تضم يافا
واللد والرملة والمجدل إلي أن تصل إلي وادي الصرار على طريق القدس بعدد قوات
فلسطينية متدربة قوامها 228 متطوع نظامي و950 مجاهد دائمي على أن يلتزم بتوجيهات
اللواء الركن إسماعيل صفوت باشا بوصفه القائد العام لقوات فلسطين المعين من قبل
جامعة الدول العربية، وكانت توجيهاته تنحصر بالدفاع عن البلدات والمدن وتأمين
الطرق المؤدية لها ومحاولة قطع طرق إمداد العدو وعمل غارات على مواقعه القريبة
بانتظار قدوم الجيوش العربية. فتعجل حسن سلامة في عمل خطوات عملية على الأرض فقام
بتوزيع قواته على مختلف النواحي، وجعل لنفسه مقر قيادة بحامية لم تتجاوز 80 جنديا
على أبواب مدينة الرملة، وكان يؤمن أن تلقائية الفدائي تجعله يفاجئ العدو ( أسلوب
المقاومة الشعبية الفرنسية ضد الاحتلال النازي) وأن أيام النصر قادمة مع الجيوش
العربية، فلم يكن يصدر قرارات تفصيلية ويكتفي بقراءة الوضع العام دون تنسيق
احتياجات الميدان في المدن الكبرى.
كما أن
حسن سلامة تناسى كل الخلافات بين القوى الفلسطينية حيث كان يقول: أحزابكم توحدت في
مظلة الهيئة العربية العليا وزي ما أنا مسؤول فوقي مسؤول وفوقه مسؤول أعلى، القضية
صارت عرب وصهاينة والجيوش العربية في طريقها لتحرير فلسطين، ألا أن كلماته لم تلق
آذان صاغية من قبل التجمعات المقاتلة فبقيت كل مجموعة تقاتل بشكل منفرد وترفض
تقديم إي إمداد لأي منطقة أخرى، فلم يحاول إقامة إي عمل هجومي لافتقاره العدد
الكافي من القوات، الا أنه غامر وهاجم موقع الجيش البريطاني في صرفند فردت عصابات
الهاغاناة بقوة كبيرة ونسفت مقر قيادته فاستشهد العديد من رجاله. بعد ذلك غيّر حسن
سلامة تكتيكه للقوات المتحركة ( أسلوب الجيش الألماني بوضع فيلق احتياط بين
الجبهات ويكون بأمرة هيئة الأركان مباشرة لتقديم التعزيزات الميدانية اللحظية)،
فصار يرسل مجموعات صغيرة مقاتلة لتدعيم صمود التنظيمات الفلسطينية في المنطقة
الوسطى كلها من اللطرون ليافا والمجدل والرملة، فتمكن خلال شهرين من كسب ثقة العديد
من التنظيمات بأنه مساند عملي ولا يتدخل بآلية القتال بل أنه يساند ويعزز الصمود
ويعد بتفاؤل أن الجيوش العربية قادمة لتحرير فلسطين.
الا أنه
لم يكتفي بمنصبه كقائد للعمليات وقناة اتصال مع الجيوش العربية، بل أنه كان يقوم
بنفسه بعمليات هجومية ضد قوات الصهاينة، ولعل آخرها كان دفاعا عن قرية رأس العين
شمالي مدينة اللد في موقع تقاطع خطوط المواصلاات بين الشمال والجنوب، وقبل أن يذهب
لرأس العين اتصل بمجموعة من التنظيمات في مدينتي اللد والرملة وكذلك في قيادات من
الجيش العراقي والمصري ليبلغهم أن قوات العدو عشرة أضعاف قوته وأنه بحاجة لمساندة
ومدد، ثم أخبر حمزة صبح قائد قوات مدينة اللد أن مدينته ستسقط إذا لم يزحف الآن،
تقدم حسن سلامة وقاتل مع مجموعته الصغيرة واستمر قتالهم يوم كامل إلا أن الذخيرة
بدأت تنفذ منهم، فصارت طلقاتهم أكثر تقطعا مما مكن قوات العدو من الهجوم عليهم فتم
ضربهم بقوة نارية كبيرة فأصيب حسن سلامة بشظايا قنبلة مورتر، فأسرع رفقاه لنجدته
فحملوه لمستشفى البعثة المصرية في مدينة الرملة، إلا أن الأطباء وقفوا عاجزين
وقالوا لرفاقه أنه سيفارق الحياة قريبا.
طلب رفاقه
حضور حمزة صبح القائد العسكري لمقابلة حسن سلامة، الذي قابله باسما رغم
ارتجاف شفتيه وغزارة الدم النازف من جرحه، ثم قال له: بتذكر أنك غضبت مني عام 1937
بسبب تركي المدينة والتحاقي بقوات الحسيني، بعرف إنك زعلان وهلقيت هيني بموت مثل
ما كنت بدك أنت، دفاعا عن اللد، يا أخي فلسطين أحلى بس اللد أغلى، الصهاينة على
الباب لازم تتحركوا، وبعرف أنكم أقوى منهم تحركوا كلكم يعني كل الجماعات، بلا ما
نموت جماعة جماعة خلينا نموت مع بعض أو نحررها مع بعض. بكى حمزة على كتفه وقال له:
أنت قائدها مقدام ولعيونك كلنا مع بعض نحررها، بس خليني أوفر إلك نقل إلي القدس
يمكن يقدروا يعالجوك. فقال حسن سلامة: لازم تتحركوا الآن لتحرير رأس العين، وإنسى
أمري أنا، الرملة رح تسقط إذا لم تتحرك، يا عمي حررها وأنا جندي بأمرك وكل جنودي
بأمرك. فقام حمزة صبح وقال أنا رايح وقواتي رح ترجعها، فقال له حسن قواتنا كلنا يا
قائدنا، فتحرك قوات مدنية اللد واستطاعت تحرير قرية رأس العين بأقل من ثلاث ساعات
وغنمت الكثير من الذخائر وعدد من آليات، فعاد حمزة للمستشفى ليطمئن على حسن سلامة
فوجده بأنفاسه الأخيرة، فبشّره بالنصر، فابتسم حسن سلامة وقال له النصر أننا
توحدنا وأصبحت رايتنا واحدة ثم وضع يده تحت وسادته وأخرج مسدسه الخاص وقال لحمزة:
هذا هدية من المفتي أمين الحسيني لما أعلنا توحيد الأحزاب الفلسطينية تحت راية
الهيئة العربية العليا، هو الآن هدية لك ولكل القوات التي قاتلت معكم، ونصرنا
بوحدتنا. ثم استشهد حسن سلامة رحمه الله.
فحمل الراية
حمزة صبح وبدأ ينشر قواته في نواحي اللد والرملة ويوحد صفوف التنظيمات العسكرية،
كما أنه أصبح يرسل تعزيزات للقوت المحاصرة ووضع قوة في رأس العين، وعندما وصل
الجيش العراقي لها رفض تسليمها لحين تعزيز قواتهم، وكاد يشتبك معهم لولا قبولهم
إبقاء جزء من قواته لحين وصول مدد من الجيوش العربية، وفعلا وصلت قوة أردنية
مساندة لكنها صغيرة، فلم يرسل غلوب باشا إلا فرقة صغيرة مكونة من 75 جندي وضابط
لمدينة الرملة و50 جندي وضابط لمدينة اللد، ينقل المرحوم عارف العارف ما
قاله قائد الجيش العربي غلوب باشا: أنا المسؤول الأول عن إخلاء اللد
والرملة، بعد أن فقد الجيش العربي ثلث قواته في ميادين القتال، وإن خطوط مواصلاته
لم تكن لتسمح له بأن يتغلغل أكثر من هذا التغلغل في جبهة مترامية الأطرافن وإن
الجيوش العربية الأخرى لم تشد أزره، ولم تحم جناحه، الجيش العراقي كان جامدا حيث
هو، بينما انقلب الجيش المصري إلي الخليل وبيت لحم بدل أن يهاجم تل أبيب. أضف إلي
ذلد أن العتاد والذخيرة كانا ينقصانه. وقد صادرت الحكومة المصرية شحنة من الأسلحة
الإنكليزية أرسلت إلي الأردن. إن هذه الأسباب مجتمعة جعلت الدفاع عن اللد والرملة
متعذرا.
إن مجرد البحث
عن جواب منطقي لماذا هزمنا رغم تفوقنا العددي يجعلني أتذكر كلمات أدونيس: في هذا
الزمن تتقدم فيه الأسئلة وينهزم الجواب؟ بالتأكيد أن الخسارة لها أسباب كثيرة لكن
أصدق أسبابها أننا قاتلنا متفرقين وأحيانا كثيرة انتظرنا دورنا في طابور
المهزومين، سقطت يافا لم تتحرك الرملة، سقطت حيفا لم تتحرك الناصرة ثم جاء دور
الرملة لتسقط فلم يتحرك آخرون أو كما قال سارترفي وصف المتخاذلين : الجحيم هم
الآخرون، قد يكون نصيبنا أننا أبناء شعب له تاريخ طويل في ثورات والنضال السياسي
والعسكري، ويبالغ البعض بوصف المجتمع الفلسطيني بأنه ديموقراطي بسبب تحرك شعبية
التنظيمات السياسية على حسب رضى الجماهير للفعل السياسي والعمل النضالي للتنظيمات
السياسية ، هذه هي انتهازية الجماهير للساسة الا إذا تم الحوار بين الساسة أو كما
قال غوته: الفن رحلة إلي الآخر، على أن يكون هدف الحوار وضع خطوط عامة مشتركة لما
هو مقبول وطنيا وترك الابداع السياسي في طرق وأساليب تنفيذ ما تم الاتفاق على أنه
خط وطني مشترك، وإذا كان هذا متعذرا على الساسة بالوقت الحالي فإنه سيصبح الخيار
الوحيد للوقوف في وجه انتهازية الجماهير التي ستتمرد على الساسة والوطن ثم تتمرد
على بعضها البعض في رحلة البحث عن حل للفرقة المجتمعية التي تنخر عظامه.
خالد أبوعدنان
ولدت لاجئا
وأحيا مهاجرا
No comments:
Post a Comment