Friday, 19 September 2014

مقال بعنوان : فن الخسارة بلا هزيمة

مقال بعنوان : فن الخسارة بلا هزيمة
الهزيمة تعني الخسارة المطلقة ، ولم يصلها إلا قلة قليلة في تاريخ النضال الإنساني ، فلا يمكن أن نعتبر الخسارة الكاملة هزيمة فهذا اليأس وهو الطريق السريع نحو الهزيمة . هكذا قلت لصديقي الصغير كُمار الذي يعتز بأنه سليل من ماتوا دفاعا عن القلعة الأخيرة لجبهة نمور التاميل إيلام ، وهو للأسف رغم ثوريته المتفتحة إصابه بعض الإحباط  وطلب مني أن أعلمه فكرة طائر الفينيق وسم كيلوبترا ، طلب مني أن أشرح له أن خسارة كل المعارك لا تعني الهزيمة وأن استعبادنا من الأعداء لا يعني أننا عبيدا .
كُمار يا عزيزي : كل البدايات هي فلسطينية ولك أن تصدقني أننا أول من صمد بحصار المدن وأول من تمرد على ثقافة المحتل أول الضعاف المنتصرين . تقول لي أشرح لي سم كيلوبترا ملكة مصر ، ونحن ندرسها لنتعلم فنون الثورة وكيف نفدي بأرواحنا أمل النصر ، كيلوبترا كانت ملكة لدولة محتلة وتحالفت مع أحد محتليها ضد آخر ، فخسر حليفها وتوعد أن ينتقم من مصر كلها ، فجاءت لعبة موت الخيانة والخروج من المصيدة . فالفكرة أنها تريد أن تغيّر حليف مصر من الخاسر للمنتصر ، وكان هذا غير مقنع إلا بتغيير رأس الحكم في مصر وقتل الملكة ، والأهم من نوع السم الذي قتل كيلوبترا ، هو الرسالة التي وجهتها لابنها حتى يقنع المنتصر أنه برئ من كل أفكار أمه ، وهذا ما حدث وأنقذت كيلوبترا بلدها بموتها وإعلانها خائنة وقلب حلفاء مصر مع الملك الجديد ، لكن بطليموس لم يُدخل مصر وحدها بالحلف وأصر على التحالف مع الكنعانيين .
وقبلها بمائة عام كتب هيرودوت في كتابه أن طائر الفينيق يخرج من الرماد ليحلّق بالسماء من الجديد ، وكتب الكثير بوصفه ألوان ومراحل تكوين ، وقال أنه أمل كل مظلوم وأن العدالة مهما بهت بريقها فهي ستبقى موجودة ، وأن الحق هو المنتصر مهما طال ظلم الباطل ، وقال أن طائر الفينيق يعشق السفر إلي قبلة الحرية ومصنع الثوار على الساحل الكنعاني .
لكننا يا كُمار قبل ذلك بألف عام ، كنا أضعف من أن ننتصر إلا أننا دخلنا معركة لكي نخسر ولا ننهزم ، معركة سجلها مازال مكتوبا ، معركة مجدو( تل المتسلم قرب حيفا ) في تحدي لتحتمس ورفض دفع الضرائب مع حركة عصيان مدني منظم شمل أرض كنعان كلها ، وكتبنا آلاف العرائض وعديد الوفود ذهبت وما أصعب أن تفاوض الاحتلال قبل أن يحتل وأنت على يقين أنه قادم وأنه سيسفك الدماء وينهب الخيرات ويستبيح كل شيء .
كنا يا كُمار بلاد الممالك الصغيرة ، فكل ناحية مملكة ، وكل مدينة لها ملك وآله وجيش ومعبد ، لكننا توحدنا حول قادش ( كُدِشّ ملك كجدو ) الذي قال لنا سنبني مجد أحفادنا قبل أن نتزوج ونصنع امبراطوية العدل في زمن الظلم سنصعد إلي فردوس الأسطورة ونعلم أحفادنا معنى البطولة ، قال قادش لا تحاربوا واستسلموا حتى لا تُقتلوا كثيرا ، ومن يرد منكم القتال فعليه أن يحضر لمجدو ، فيها سنموت دون أن ننهزم ، فمتلأت مجدو بالفرسان وكل القرابين أُرسلت لمحرقة الأرواح التي ستفدي كنعان كلها .
هجم تحتمس هجوم الباحث عن مجد البطولات ، فقتل وسرق وساق الظلم الكافر على كل العباد ، وقال أنتم الهكسوس أنتم من سرق مصر من جدي ، ودخل برا وبحرا على غزة وعكا وحاصر مجدو وحرق حاصور ، قال لمجدو أريد قادش أن يُقبّل نعلي وأعفي عنكم جميعا ، أريد أن أشرب الخمر بجمجمة قادش أريد أن أقتل قادش ألف مرة ثم أحرقه ثم أقتله من جديد .
حصار ضُرِبَ على مجدو سبعة أشهر ، ولكن قادش رفض أن نذبح ذبيحة ولا نأكل إلا زيت وزعتر بخبز مالح ولا نشرب إلا الماء ، رغم أننا كنا نملك  خير كثير من المواشي والحبوب والخمور وكل خير فلسطين ، لكن قادش أصر علينا ونحن له كنا طائعين ، قادش كان لا يقتل العملاء بل كان يعطف عليهم ويعطيهم ذهبا وحصان ويقول لهم إرحلوا عن مجدو ، فالموت هنا للثوار فقط .
وفي نهاية الشهر السابع قال لنا قادش : لقد نجحنا لم ننهزم لقد جاء تحتمس يريدنا أن نقول أنه إله لنا ونحن نعبده ، وأن أرضنا هي ملكه ونحن عبيده ، وأن أولادنا ليسوا سوى عبيد قبل أن يولدوا . وها هو يقبل أن يأخذ الضريبة والغنيمة ، ويترك لنا أرضنا وعرضنا ولنا أن نعبد ما نشاء وأولادنا أحرار حتى بعد موتهم .
قال قادش أنا ذاهب إلي النصر القادم وأما أنتم فلن تنهزموا ، فلا تحاربوا بل قاتلوا واخسروا حتى لا يبقى طريق الظالمين سهلا ، ودخل قادش بيته في مجدو ، ودخل جنود تحتمس مجدو وغنموا كل المواشي والحبوب وفرحوا بها ، ولم يقتلونا ، بل قالوا إرحلوا عنها لا نريد إلا قادش ، أين قادش ؟ قادش النصر القادم قادش الحلم النائم في جوف الحرية ، كل جنود تحتمس وسحرته وكهنته لم يجدو قادش ، ومجدو حوصرت وطردوا وأسروا كل مجدو إلا قادش ، قادش الذي صعد إلي السماء ليسرق لنا نور نجمة النصر ويعمّر لنا قلعة فوق كل غيمة ، وكل ما تبقى لنا من ذكراه سوى خبزة مغموسة بزيت وزعتر إيمانا منا أنه عنوان أول صمود لثورة علّمتنا أننا ستخسر أحيانا لكننا لن نُهزم أبداً .
خالد أبوعدنان

ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا 

No comments:

Post a Comment