حوارية بعنوان :
في حضرة المخطوط
جمعت الصدفة ابن
تنظيم سياسي مع المخطوط أي قاضي عشائري في حوارية مهمة عن المخاطر المحيطة
بالتنظيم السياسي والقبيلة العربية ، كما أن المتحاورين حاولا حل مشاكل بعضهما
البعض بحكم التقارب الفطري بين القبيلة والتنظيم ، فتباحثا بمحاور أهمها : أيهما
أشد عصبية التنظيم السياسي أم القبيلة العربية ؟ من منهما يطبق قوانينه في زمن
الفوضى الخلاقة ؟ هل يجوز حل الخلافات بين الأحزاب السياسية بطريقة عشائرية ؟ وهل
يمكن الاحتكام للأعراف الشعبية لحل المشاكل الداخلية في العمل التنظيمي ؟
جلست بحضرت
المخطوط أنهل من علومه وأفتح له حروف العمل التنظيمي ، كانت رغبتي أن نخلط زيت
الفكر التنظيمي بدقيق القضاء العشائري ، إيمانا مني أن الثورة تتعلم من تجارب
الشعوب ومنها تطور أساليبها وتهذب فكرها ، وتجسيدا لمبدأ مهم في المسلكية الثورية
ذلك الذي يدعو لاحترام القيم الاجتماعية لدى جماهير الثورة . أما المخطوط فهو صعب
التلون بحكم حياده الفطري ولهذا السبب رفضته القوانين الوضعية وتم استبداله
بالقاضي الشرعي ، والفرق بينها أن المخطوط هو قاضي منتخب من أعيان القبائل يحكم
بالعرف والقضاء العشائري المتوارث أجره الدعاء له بالخير من المتخاصمين ، وأما
القاضي الشرعي فهو معين من قبل الدولة ويعمل وفق ما تعتمده من القضاء العشائري لذا
فهو من حاسة الختوم ويتقاضى راتبا من خزينة الدولة .
قال لي المخطوط :
أنت قادم تبحث حلول عتيقة لمشاكل عقيمة ، عصبيتكم أشد من الجاهلية القديمة وأقذر
ما فعلتوه أن مزقتهم رحمكم ومن عظامكم رفعتوا سارية علمكم وبعتم عقولكم لمفارسكم .
فأرجو أن لا تخاطبني بكلمة أخ ، فأنت لن تكون أخي بل غريمي من أهلي ، وما أصعب أن
يكون غريمك قريبك . فقلت له : إذن إتفقنا أننا أقارب على الأقل وهذا يجعل لنا هموم
مشتركة نسعى لحل بعضها معا ، وفي البداية أريد أن أسألك عن العصبية القبيلية وكيف
ترى العصبية في التنظيم السياسي ؟ فقال لي المخطوط : العصبية هي كرامة القبيلة فهي
تضم جميع أفرد القبيلة في إطار واحد متماسك فهو الردع الحامي من كل غازي والسند
الوافي لكل حليف دخيل وهي جمعنا في فرحنا وترحنا فيها تغنى شعراؤنا وندبت نساؤنا .
أما أنها فككت لحمت الوطن وشتت شعوبه بالثارات والغارات فهذا كلام السلاطين من
أيام الفرس والرومان . وها أنتم تتعصبون لفكرة ولقائد أيهما أقوى رابط الدم والعرف
أما التنظيم السياسي ؟ القبيلة لو انقسمت تكبر مرابعها وتتوسع مضاربها ويزداد
حلفاؤها أما التنظيم السياسي لا ينقسم بل يتشقشق فيصبح فتات منسية من الحسابات
السياسية ، العصبية في التنظيم السياسي أن تسكت عن الغلط وتدافع عن الباطل وتقبل
الصمت وقت وجوب الكلام ، في عصبيتنا ندافع عن شيخنا وإن أخطأ شيخنا نجلسه مقعد
الحق وفيها أن الشيخ حاكم مطاع وإذا طُلِب للقضاء جاء للمخطوط منصاع ، وشيخنا يقرر
بمجلس الشورى وإذا رفض رأي الشورى صار بلا مشورة فليس لقراره سيرورة وللمخطوط عاد
يطلب حق العونة ، أما قاضي التنظيم السياسي فهو محكوم بمن يدفع راتبه ، وإنصافه
بين الصغار عدل لكن سكوته عن جرائم الكبار لابد أن يناله منها الرجم .
قلت للمخطوط : يا
قاضينا العصبية التنظيمية عصبة ضد العدو وعصمة من الغدر ووحدة بين التنظيمات ضد
الثارات والغارات ، بدل القاضي عندنا محكمة ثورية وقوانينها تطبق على كافة الأعضاء
دون تمييز ، وبدل مجلس الشورى عندنا لجنة مركزية أو مكتب سياسي وهو من يقرر كما
عندكم أما الرئيس فهو ينفذ رأي الأغلبية ، ويحق لأي عضو تقديم شكوى ضد الرئيس .
قاطعني المخطوط وقال : بينك وبين الكتاب ثقة لكن المرآة لا تنقش قبحا على الوجه
الصبوحي ، يا ابن أهلي إن أردت أن أعدد لك كم شيخ قبيلة حوكم على قرارتهم لطال
عليك السهر ، لكن ذكرني بقاضي حكم ضد رئيس تنظيمه السياسي في بلاد الأحزاب العربية
؟ وعصبيتكم مثل ثلج الظهر بشمس تموز أصوات تتعالى ضد هذا القرار لكني ابن التنظيم
ومع الرئيس ؟ وأحيانا أنا مع القرار ولكني ضد الرئيس ؟ العصبية ليست منفعة خاصة
ولا مصلحة خصوصية العصبية حمية وقت الشدة وعزوة وقت النخوة . دعني أسألك سؤال آخر
ما هو قانون الفصل عنكم ؟ كيف تتبرأون من أخوانكم ؟ كيف تخلعون ثورة عن ثواركم ؟
قلت له : لم أتوقع
سؤال عن الفصل بعد الحديث عن العصبية هذه نقلة من النقيض لنقيض ، فقال لي المخطوط
: عندنا الخلع من أجل الحفاظ على العصبية ولحماية القبيلة وتبري لمن تبرأ من
أعرافنا وأحكامنا وعاداتنا ، لكنني لم أفهمها عندك وكما أكرمتك بعلمي زودني من
زواتكم لقيمات ؟ فتبسمت وقلت : الفصل فيصل بين الحق والباطل وفي دساتيرنا يفصل من
خان العهد أو ارتكب جريمة مخلة بالشرف ، فسألني المخطوط مستفسرا : وما هو الشرف
السياسي ؟ هل هو مطابق لسوادينا ( أي عادلتنا ) ؟ وهل كل الخيانة درجة واحدة أم
درجات ؟ أعذرني يا ابن أهلي فقد أغشيت بصيرتي بكلامك وما عدت استوعب اصطلاحاتك ؟
فالشرف شرفات على الانسان ، شرفة الجبن وشرفة الضعف وشرفة الغدر وشرفة الحقد فهي
مراتب منها ما يسحب الشرف لخامس جد ومنها تبرأ الأهل من الفرد وقطع شرش دساس ،
وليس كل خائن عديم الشرف فهناك بخيل وعاشق الرغد وساكن السحاب ، فإذا تفضلت علينا
بشرح دستوركم فهو أصعب من ناموسنا وليس له دبوس في ثوب علمنا . فقلت له : بصراحة
أنت بحاجة لرجل قانون يشرح لك تفاسير دستورنا لكنني أعرف أن من تسبب بقتل أخا له
أو تعاون مع العدو أو أفشى أسرار الثورة أو سلك مسلكا ساقطا فهو لا يعد يتحلى
بصفات الثائر وبالتالي يتم بتره من جسد الثورة ، كما أن من حاول شق صفوف التنظيم أو
تآمر على قيادته يعد مفصولا .
فنظرة المخطوط
نظرة استغراب ثم قال : يعد مفصولا بهذه السهولة من الأخوة التنظيمية والعصبية
الثورية يتم بتره ويصبح من أعداء الثورة ، آه كم هي عسيرة وشاقة عملية بتر أحد
أبناء القبيلة ، فهي صعبة ومليئة بالدموع والحسرة وقطع الأرحام وشطب الأنساب ،
إنها فك عصبة من شرايين الفؤاد ومهما حاولت استئصال الفاسد فإن كل الشرايين ستتألم
ولن تعود على سابق عهدها . فقلت له : طبعا يكون هناك محاكمة وشفافية بالحكم ،
فقاطعني : أتوقع ذلك ، لكن حديثي عن مفهوم الأخوة عندكم هل تتم العملية بلمح البصر
؟ عندما ينضم عضو جديد فهو أخاك الجديد وعندما يتم فصل آخر فهو عدو الجديد !!! يا
ابن أهلي أتركني بعقلي فكلامك في ناموسي كفر ، نحن نخلع شريانا من قلبنا ونبقى
نتحسر على بختنا بين القبائل ، نخلعه خوفا من عدوى الفساد ونعده قتل لنا وحياة له
، نعم نخلعه حتى لا نقتله أما خلعكم له فهو قتل له ولكل من أحبه منكم ، من يبترأ
أخاه ولا يتحسر عليه لا يتحسر على موته أحد ولا ينتخيه دخيل ولا يستجيره طريد .
أرهقتني يا مخطوط
وعلّقت ذاكرتني بأخوة كانوا لي ، وأصبحنا لا نتخاطب وإذا اجتمعنا لا نتجالس ، يا
مخطوط لكل نظام ضوابطه وهذا دستورنا الذي تريد أن تعرف ، ولي سؤال أخير يا ليتك
تجيب عليه : إذا اختصمت قبيلتين عندك كيف تحكم بينهم ؟ وإذا حضر لك تنظيمين
سياسيين هل أنت قادر على الحكم بينهما ؟ فهز رأسه وتبسم وقال : أجبتك عن ثلاث وأنت
تسمع ولا تعلق إلا قليلا وأعرف أن بجعبتك علوم لا أعرفها ، وهي بدعكم في فن
التعامل بين الناس وعندنا الناس قبائل وشعوب وسؤالك عن القبائل دون الشعوب يعني
أنك تبحث عن حكم القضاء العشائري في الطوشات أي إقتتال بين الناس ، والطوشة بعرفنا
مراتب تبدأ بخلافات صغيرة بين أفراد ثم مشادات كلامية وارتفاع الأصوات وبعد ذلك
ممكن تتطور إلي أسوأ من ذلك إلا إذا العقّال عقّلوا الأوادم فيرمون ما يسمى بوجه
عدم وهي بمثابة عطوة ضرورية مؤقتة ليس لها فراش وكفلاء فهي طارئة وهدفها حقن
الدماء وتطييب الخواطر ، ثم تبدأ عملية التحكيم حسب عاداتنا . وفي خلافات القبائل
بين بعضها يتم تكريم الوسطاء فهم فعّال خير ولا مصلحة لهم سوى إرضاء المتخاصمين
وأيضا عندنا مجلس مشايخ لشيوخ القبائل يتم فيه تبحاث المونة وهي كرامة التسامح
القبلي وهناك مشاورة التي تتم بجمع مخاطيط عارفين بالقضية لبث بحول مرضية للجميع
أي حق الله وحق المتخاصمين وحق الجاهة وحق المونة ، وأغلب الطوش تنتهي في هذه
المرحلة ، أما إذا كبرت تصبح حرب ولها لوازمها من تحالف مع الآخرين وإسكات الثارات
وإعادة المبريين من القبيلة ، ولهذا السبب قلت لك أنه لا يوجد خلع نهائي من
القبيلة ، فوقت الحرب كل دمنا مطلوب والدفاع عن القبيلة يصبح واجب على الغلمان قبل
الفرسان .
ثم اقترب من أذني
وقال : يا حيف على قبائل العربان ، أصبحنا نقرأ عنها بالكتب ولا نرى إلا القليل من
عاداتنا ، فالقبائل تناثر أفرادها في المدن والنواحي بحثا عن وظيفة وسكن متمدن ، واختلطت دماؤنا ولم
نعد نعرف حق بناتنا العوانس من حق مصاهراتنا لشعوب كثيرة وأصبح طعامنا ولبسنا وحتى
كلامنا يحمل فسيسفاء الوطن الذي ابتدعتوه لنا ، يا ابن أهلي العشاير صارت
للمناسبات وأداء الواجبات ولم تعد أسلوب حياة فتجمدت شرايين القبيلة وبدأ ريش
الملائكة يملأ مضاربنا وهي علامة من علامات القيامة ، ما عاد لك أن تسأل أو تُسأل
فأنت تعلم أننا على وشك الانقراض وجئتني لتتعلم سر صمودنا لحد الآن ، تسأل لماذا
لم تنتهي الرجعية العربية القبلية ؟ بعد كل مؤامرات الاستعمار علينا وحكام العرب
بجيوشهم المفترسة وأيضا تطلعاتكم أنتم لإعادة تلحيم أبناء الشعب في بوتقة
التنظيمات السياسية ، وسبب داخلي أننا أرسلنا أبناؤنا للمدارس وهي أساس بلاؤنا
وبلاؤكم ، فعلمها ليس للعرب ، بل لعبيد الغرب فهي تروضك لتكون ابن النظام السياسي
فتنتهي بأن تصبح عبد مملوك لعبد آخر وهذا الآخر يُقبّل أقدام أسياده في الغرب ، ما
نجحتم ولا فشلنا بل أننا نظائر بدائل ظاهريا كما رسم الاستعمار أما على أرض الواقع
فنحن خواتم القبائل وأنتم بشاير التنظيمات السياسية فلن تكبروا على حساب نهايتنا
بل ستبكون عليها ، فلولانا لأصبحت خلافاتكم دموية فنحن أهل حق المونة وكرامة لفلان
وبكفالة شيخ الفلاني ، تعرف يا ابن أهلي هذا ما ينقص التنظيم السياسي وهي الرحمة
والتسامح .
ثم تابع قوله وقال
: وقبل ما تنهي أريد أن أحملك وصية ابن القبيلة لابنه عندما يبلغ سن الرشد وهي لها
مراسم احتفالية وحمام وصلاة وثم يبدأ الوالد فيقول : الوصايا نواصي والرجل لسانه
بعقله ما يطّلع الكلمة الا حاسبها ، فخاف الله وأعرف أنك مسلم وإلك كتاب وعن هذا
الكتاب أوصيك الدوام ، يا ولدي الثار نار وما يفور دمك سريع قبل حكم القاضي وإن فرت
فارت عشريتك وراك وثار بصير ثارات ، يا ولدي لا تتباهى بأجدادي ولا تتفاخر بعشيرتي
وهم ما رح ينقصوا ولا يزيدوا من كلامك لكن بأفعالك ومواقفك ربعك تتباهى ، يا ولدي
لو كنت فارس الفرسان لا تبلش بالحرب لأنه حريقها على دمك وعرضك وما طلع من الحرب
سالم إلا الخاين ، يا ولدي صديقك إن خانك لا تخونه كرامة لنفسك ولزاد بيناتكم نرزق
وحتى لو إنك طالب ثار صديقك لا تخونه ، يا ولدي لا تتجاهل وتماشي الجهّال ترى تصغر
بين الناس وترخص ديتك ورافق مرافق عقالك ورايد رأيك ، يا ولدي عقل واحد ما يعقل
والمشاورة زينة الرأي ومن شاور ما ذل ومن عاند ما أبقى لنفسه خليلا ، يا ولدي حق
سيف فوق رأس الحر وما تصير حر حتى تقبل الحق على روحك قبل ما تقبله على آخرين ، يا
ولدي قاضي يقاضي ولا يتقاضى أجرا غير الدعاء له بالخير ، لا تعاند القاضي فهو لسان
أعرافنا وعاداتنا ، يا ولدي لا تخون وعدك ووعد العطوة ما شيلها الا شيلك من بين
الرجال وحسابك مع الجهّال ، يا ولدي المسامح كريم والعرب أهل الكرم سامح حتى الناس
تسامحك وتسامح عشيرتك ، يا ولدي أنصر عشيرتك بالخير وعدّلها ما تجور على العربان
فالظالم نهاره ظلام وقبره عتم .
ثم قال : باقي
الوصية لن يفيدك فهذا ما يخصك يا ابن التنظيم السياسي وأرجو أن نبقى على تواصل
فصلة الرحم واجبة وإن لم تصلي فواجبي واصالك . ثم ودعته وانصرفت مستكفيا بما
تعلمته ويمكن تلخيصه بما يلي : في زمن الجهل المقدس يصبح التثاقف جنون الفكرة
والتجاهل بداهة الوقاحة ، فتسقط الحقيقة في بئر الأحلام السرمدية وتتصاعد نيران
العدل لتحرق بقايا الغرور الانساني ، فالعتيق لم يعد عريق والتطوير لا يعني تجديد في
تجديف الوعي وتعريض الفكر .
خالد أبوعدنان
ولدت لاجئا وأحيا
مهاجرا
No comments:
Post a Comment